الأحد، 12 يوليو 2015

سويسرا بين الواقع والمثال (٤) الانتحار

عند المشي على جسر في سويسرا أو مكان مرتفع ستلاحظ أن هناك أسلاك على الجانب وشباك وحواجز بالأسفل، وفي أول الأمر اعتقدت إنها بسبب الأمان لا أكثر ولكن بعدها اكتشفت إنها بسبب وقف حالات الانتحار في تلك الأماكن.



يصعب في أرض الواقع التعرف أو ملاحظة كثرة حالات الإنتحار بإستثناء هذه الأسلاك والحواجز على الجسور والأماكن المرتفعة، شدني موضوع الإنتحار هذا وكل ما امكنني فعله هو البحث في الإنترنت والسؤال.


تحتل سويسرا مرتبة مرتفعة جدًا لعدد حالات الانتحار مقارنة بالدول الأوروبية، وقد انخفض المعدل تدريجيًا، على سبيل المثال، كان هناك  14.3 حالة انتحار لكل 100،000 نسمة في عام 2007، مقارنة مع 22 حالة انتحار في عام 1984.(١)



وفي عام 2009، توفي 1105 شخصا (827 من الرجال والنساء 278) بواسطة الانتحار في سويسرا.
وفي عام 1995، أكثر من 1400 شخص قاموا بالإنتحار
وفي منتصف عام 1980 كان العدد أكثر من 1600 شخص.(٢)





أما عن الأسباب الدافعة للانتحار فإن 56% من حالات الإنتحار لا يتم ذكر السبب، ويصنفها مكتب الإحصاء الفيدرالي السويسري على أنها حالات إكتئاب. أما 44٪ من حالات الإنتحار فإن السبب يعود إلى مرض جسدي ألم بالمنتحر أبرزها السرطان والقلب وأمراض الرئة.




أما بالنسبة لأساليب الإنتحار فهي موزعة على النحو التالي:
الشنق 28%
إطلاق النار 23%
السم 14%
القفز من مكان مرتفع 14%
القفز أمام مركبة 10%
أساليب اخرى 11%



المحير في الأمر أن الشريحة الكبرى من المنتحرين كما ذكرنا سابقًا يعود الدافع إلى الإكتئاب، وهذا موضوع به غموض فلا يعقل أن 56% من المنتحرين مصابون بالأكتئاب، وإن سلمنا بالأمر لماذا الإكتئاب منتشر بهذا الشكل المخيف، وكيف لدولة مثل سويسرا وأيضًا الدول الاسكندنافية وهي الدول المتقدمة في كل المجالات هذا اليوم تنتشر فيها ظاهرة الانتحار مع ان الإنتحار ليس موروث تاريخي لهذا الدول كاليابان مثلًا؟

قد استطيع القول أن هذا يعود إلى سببين رئيسيين وهما:

1- سياحة الانتحار:

ويقصد بسياحة الإنتحار أن يسافر شخص ينوي الإنتحار إلى بلد معين ولجهة معينة تقوم هذه الجهة بمساعدته على الإنتحار بدافع الشفقة أو كما يطلق عليه: الموت الرحيم. حيث تسمح القوانين في سويسرا بالقيام بالعملية مع ضرورة توافر شرط مرض الراغب بالإنتحار، وفي عام 2011 كان هناك إستفتاء في مدينة زيورخ وهي أشهر مدينة في سويسرا معروفة بسياحة الإنتحار تم التصويت على حظر سياحة الانتحار "وأظهرت النتائج النهائية للاستفتاء أن 15.5 ٪ فقط من الناخبين أيدوا حظر الانتحار بمساعدة الغير بينما أيد 22 ٪ حظر سياحة الانتحار." (٣)


"وبين 2008 و2012، استقبلت سويسرا 611 "سائحا" من 31 دولة، وغالبيتهم من ألمانيا وبريطانيا، وذلك بغرض الانتحار. وقالت دراسة علمية إنّ ستّ منظمات تدافع عن "الحق في الموت" في المملكة المتحدة ساعدت على الأقل في 600 حالة انتحار، من ضمنها ما بين 150 و200 "سائح انتحار." (٤)

هذه البيئة الإنتحارية قد خلقت في ذهن الناس صورة عادية أو ربما جميلة للإنتحار حيث يجمع مصطلحين يحاول الأول تحسين قبح الآخر مثل: سياحة الانتحار والموت الرحيم، وأصبحت ثقافة سائدة بين المجتمع وما أن يصاب الفرد بمرض أو ضائقة مالية كان الإنتحار هو أول الحلول وليس آخرها.


٢- حضارة مادية:

مع تقدم الدول الأوروبية منها سويسرا والدول الإسكندنافية تحولت هذه النهضة إلى نهضة مادية في نهاية الأمر، وأصبحت اللغة هي لغة المال، إن هذا الموضوع موضوع يحتاج إلى الكثير من التفصيل فهو موضوع يحمل في طياته الكثير من العناصر والعوامل: سياسية اقتصادية تاريخية وثقافية..الخ.

إن من أحد الأسباب كما ذكرنا سابقًا للانتحار والشريحة الكبرى هي الاكتئاب، ولكن اعتقد أن السبب الحقيقي وراء هذا النوع من الانتحار هي أسباب مالية بحتة وليست نفسية أو عاطفية، وفئة الشباب هم اكثر الفئات المصنفة تحت عنصر "الاكتئاب" وعادة ما يكون السيناريو على النحو التالي:
شاب خرج من البيت الذي ترعرع فيه بعد أن اصبح في سن الثامنة عشر، قطع الصلة بأسرته ليؤسس حياته الجديدة، يلتحق بوظيفة بسيطة، يخسر هذه الوظيفة، يبحث عن عمل، لا يجد عمل لسنوات، وفي رأس السنة الميلادية -الكريسمس- يشاهد الأفراد من حوله يحتفلون ويشترون ما تشتهي أنفسهم مع أسرهم يجتمعون، وهو وحيد، فيقرر القفز من على جسر ويضع حد لهذه المعاناة.
ولذلك بسويسرا في رأس السنة الميلادية وعلى الجسور هناك بعض المتطوعين يعملون كحراس في الجسر لمنع حدوث أي حالات انتحار بسبب زيادة الحالات في مثل هذا اليوم.

وعلى النقيض تمامًا من هذا السيناريو ينتشر سيناريو آخر وهو كالآتي:
فتاة لديها 16 عامًا، من عائلة غنية، لديها كل ما تريد، وكل ما تتمنى، وكل ما تسأل، تتجرع السم وتكتب ملاحظة: كنت وحيدة والحياة مملة.

لا يوجد أي رادع لإقبال الفرد على هذا القرار وقد اعتبرته الدول الأوروبية حرية شخصية، مع وجود نظريات فلسفية أخلاقية تعتبر الانتحار عمل غير أخلاقي وضد الحرية الشخصية. 

وقد عثرت في إحدى المكتبات في مدينة بازل كتب تتحدث عن الإنتحار والمساعدة عليه ومتى يجب أن تتخذ القرار، ويقوم الكتاب بإعطاء نصائح عن الإنتحار، وهذه هي ثلاثة كتب تتحدث حول الموت ومتى تحدده بنفسك



أما بالنسبة للدين والذي انسلخت منه أوروبا بعد الثورة الفرنسية فإنه عمومًا يحرم الانتحار سواء في الاسلام أو اليهودية أو المسيحية، مع صمت الكنسية الكاثوليكية في قضية الانتحار في سويسرا، ولهذا "ترى الباحثة سوزان فيشر أن الكنسية البروتستانتية تساهلت في هذا الأمر، ولم توضح الكنسية الكاثوليكية السويسرية موقفها صراحة في هذا المجال، وهو ما يعطي المقدمين على تلك الخطوة ومن يساعدهم الشعور بأنهم لا يرتكبون خطيئة"(٥)




١- wikipedia

الأحد، 5 يوليو 2015

سويسرا بين الواقع والمثال (٣) الوقت





بقدر ما تشتهر سويسرا بصناعة الساعات ذات الدقة العالية والتصميم المتقن، فإن شعبها يشتهر بالالتزام بدقة المواعيد ودائمًا ما يكون في الوقت المحدد (on time)، وهذا ما لاحظته عند وصولي في أول يوم، فعندما استقليت القطار من زيورخ إلى العاصمة برن تم الإعلان في القطار عن شيء لم افهمه لأنه كان باللغة الألمانية، ولكن كانت هناك سيدتان تجلسان بجانبي ولقد ظهر على وجهيهما آثار الإنزعاج بعد الإعلان، وهنا ظننت أن شيء سيء قد سيحصل، فطلبت من صديقي أن يترجم لي الإعلان، فاتضح لي أن الإعلان كان يقول أن القطار سوف يتأخر لعشرة دقائق لأنه سيسلك طريق آخر بسبب أن الطريق الذي ينبغي أن يسلكه قيد الإصلاح، نعم لقد كانت 10 دقائق فقط من التأخير تجعل الناس ينزعجون مع أنه تأخير خارج عن إطار إرادتهم.

لقد كان هذا أول موقف لي مع الإسطوانة السويسرية والتوقيت، وعمومًا هي صحيحة ولا اعني هنا بشكل كامل، فالتعميم ليس حكم صحيح، وإنما هناك استثناءات بشكل دائم، فمثلًا في القطارات أو بالأحرى الترام عندما يكون التنقل داخل المدن الصغيرة يكون هناك تأخير في الموعد لدقيقة أو دقيقتين إلا أن السائق عليه أن يتدارك هذا التوقيت، ويعود سبب هذا التأخير إلى أن شبكة الطرق للقطارات والترام والحافلات العامة معقدة وإن أي تأخير أو عطل ولو لثانية واحدة في جهة يتسبب بتأخير في جهة أخرى لمدة دقيقة، ومع ذلك يتدم تدارك الموقف وتعود المياه إلى مجاريها من جديد وبنفس التوقيت.

فبشكل عام كانت هذه الإسطوانة والصورة النمطية للتوقيت صحيحة واستطيع أن اقول إنها دقيقة، فعندما يقولون في الوقت المحدد أو توقيت سويسري فالمقصود هنا بالضبط في الوقت المحدد، فإذا كان إجتماع ما يبدأ في الساعة 7:00 فسيلتقي الناس في الساعة 7:00 ولكن ليس قبل ذلك، لذلك عبارة في الوقت المحدد (on time)، هي دقيقة وهذا يعني قد يتأخر السويسري ولكن من الخروج من بيته مثلًا، فيحاول أن يفعل المستحيل حتى لا يتأخر عن الإجتماع، فلو مثلنا هذا بمثال وسيكون على النحو التالي:

عامل سويسري كل يوم يذهب إلى عمله، يخرج الساعة السابعة من بيته ويصل لمكان عمله في الساعة الثامنة، ويمشي في الطريق بأريحية، لو تأخر هذا السويسري لمدة 15 دقيقة في بيته لسبب من الأسباب وخرج في الساعة 7:15 فسيعوّض هذا التأخير في الطريق ولهذا ستجده مجهد ويهرول.
وهذا ما لاحظته كذلك وخاصة في المدن وعند محطات القطارات وفي المجمعات التجارية، هناك فئتين من الناس الذين يقصدون مكان معين أو يريدون إنهاء إجراء أو عمل، الفئة الأولى يسيرون بأريحية والفئة الثانية المهرولون، وذلك لأن الفئة الأولى خرجوا في الوقت المحدد والفئة الثانية تأخروا في الطريق ولكن في النهاية الفئتان سيصلوا في الوقت المحدد.
ولذلك تعجبت في البداية لماذا الناس يهرولون على السلالم الكهربائية ثم اتضحت لي هذه الرؤية، والأعجب من ذلك أن في السلالم الكهربائية إذا كنت غير متأخر ولا تريد أن تمشي فعليك أن تقف في الجانب الأيمن من السلم، والمهرولون على الجانب الأيسر.

مظهر آخر من مظاهر الدقة في التواقيت هو التوقيت لإغلاق المحلات التجارية، وهو موضوع معقد حيث تخضع كل مقاطعة لقانون معين تحدده المقاطعة عبر الإجراءات القانونية، وسوف اتحدث عن المقاطعة التي اسكن حاليها فيها وهي فريبورج Freiburg، فالمحلات التجارية تغلق في الساعة 6:30 أو 7:00 مساءًا يعتمد على حسب المحل، وفي يوم الخميس يغلق في الساعة 9:00 مساءًا ومن لا يتقيد بهذا التوقيت يعرض نفسه لمسائلة قانونية ويغرم بمبلغ لا يتجاوز قرابة 40,000 CHF وهو ما يقارب 16,000 ريال عُماني، وفي حالة كان الدافع من عدم اغلاق المحل الجشع لكسب المزيد من المال فتكون الغرامة غير محدودة، لقد تعجبت عندما علمت بهذه المعلومة لأن بالمقارنة وفي عُمان تبقى بعض المحلات مفتوحة حتى بعد منتصف الليل، وما كان عليّ أن اتعجب، كيف والله يقول: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (النبأ/9).

إن التقييد بالتوقيت واحترام الوقت ما كان حكرًا على الغرب وحده، بل إنها ثقافة ضاربة بجذورها في الثقافة الإسلامية، حيث اقسم الله وفي اكثر من موضع بالأوقات: والعصر والفجر والضحى والليل والنهار وغيرها من الآيات الدالة على مثل ذلك، ولكن اعتبرنا التقييد بالوقت هي ماركة اوروبية صرفة والتأخير ما هو إلا منهج العرب، فتقدمت أمم وتأخرت أخرى على غرار ذلك.