الأحد، 28 سبتمبر 2014

أنا الدولة والدولة أنا


لم يوجد نظام سياسي سيء إلا وقد جربه العرب، فعلى مر العصور والأزمان جربنا النظام الدكتاتوري بالصبغة العسكرية والإستبداد بالصبغة الدينية والطغيان والإنقلاب والإستعمار والحكم الأبوي ..الخ
ولكن الأسوء من ذلك عندما نكون طرفًا في صنع هذا الطغيان، نضع له المبررات ومع مرور الأيام نحبه ثم نعشقه ثم لا  نستطيع العيش بدونه، فنربط الدولة بالطاغية، وتصبح الدولة هي الطاغية والطاغية هو الدولة، ومن لا يحب الطاغية فهو لا يحب الوطن.
قد لا تظهر سلبيات هذا النوع من التفكير في حين أن الطاغية ما زال يتنفس، ولكن بلا ادنى شك ستظهر عندما يذهب إلى ضريحه مضطرًا، فسرعان ما ينهار الناس، نواح وبكائيات ولطميات، تحسبهم سكارى وما هم سكارى، ذلك أنهم عاشوا في زيف استطاع الطاغية أن يصنعه ويقنعهم به، ويحقق الطاغية آخر أمنية له : أنا ومن بعدي الطوفان!
غير أنهم ما يلبثوا إلا ويبدئون بالتصفيق للطاغية الجديد، وتخرج المسيرات والهتافات: بالروح بالدم نفديك يا فلان! وتستمر صناعة الطغاة، وخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد ! 





تحدث الكاتب إمام عبد الفتاح إمام في كتابه " الطاغية " عن مثل هذه الحالة وأجاد صياغتها، مستشهدًا بذلك حالة العرب والمصريين بعد وفاة جمال عبد الناصر، أنقل لكم جزءًا من كتابه القيّم راجيًا ألا نكرر الأخطاء وأن نتعظ ! :


" ومن الطبيعي ألا نجد مثل هذا الارتباط بين شخصية الحاكم ومـسـار
الطبيعة أو التوحيد بينه وبين الناس في هوية واحدة إلا في نظام الطغيان وحده فيستحيل أن ينهار الناس أو يسقط الحكم عندما يموت الحاكم في دولة ديمقراطية بالغا ما بلغ حبهم له أو تعلقهم به فقـد حـدث مـثـلا أن حزن الأمريكيون بعد أن اغتيل كندي بغتة لكنهم لم ينهاروا. كما حدث أن أسقط الإنجليز تشرشل رغم احترامهم وتقديرهم له وفـعـل الـفـرنـسـيـون الشيء نفسه مع ديجول. أما الطاغية عندنا فهو الشعب وهو مصدر كل السلطات بطريق مباشر أو غير مباشر وأي نقد لسلوكه أو هجوم عـلـى سياسته هو نقد وهجوم على البلد بأسره لأنه هو البلد. الحرية له وحده والنقد يصدر من جانبه فحسب ولا يجوز لأحد غيره أن يجرؤ على ممارسته. إنه يمد الحبل السري إلى جميع أفراد اﻟﻤﺠتمع فيـتـنـفـسـون شـهـيـقـا كـلـمـا تنفس ولا تعمل خلاياهم إلا بأمره إنـه يمـلأ كـل ذرة غـبـار فـي الجـو مـن حولهم فهو "الزعيم الأوحد" و"الرئيس اﻟﻤﺨلص" و"مبعوث العناية الإلهية" و"القائد والاعلم" والملهم الذي يأمر فينصاع الجميع لأمره. وهو يـعـبـر عـن مصالح الناس ويعرفها أفضل منهم لأنهم "قصر" لم يبلغـوا سـن الـرشـد بعد وأنى للقاصر أن يعرف الصـواب مـن الخـطـأ أو أن يـفـرق بـين الحـق والباطل!

وانبعثت هذه الظاهرة الغريبة التوحيد بين الحاكم والشعـب لـيـصـبـح "الكل في واحد" في الليلة التي مات فيها عبد الناصر ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠عندما ذهل العالم لذلك الذي صنـعـه الـعـرب عـلـى امـتـداد أقـطـارهـم ولا سيما ما فعله المصريون من بكاء وعويل على نحو هستيري وعاشت الأمة العربية ومصر بالذات ثلاثة أيام كئيبة ثم كانت الجنازة التي سار فيها ملايين البشر يبكون ويصرخون ويلطمون الخدود... الخ.

 ومن وجهة النظر الغربية فإن ما جرى في أسبوع وفاة عبـد الـنـاصـر بـدا غـيـر مـفـهـوم عـلـى الإطلاق لدى العقل الأوروبي إذ كان صعبا على قوم تخضع حياتهم لعمليات حسابية ضئيلة أن يفهموا تلك الحالة من الاكتئاب الجماعي التي بدت لهم كوباء انتشر خلال ساعات معدودة فاستسلم الناس له بحيث فقدوا القدرة على تمييز ما يفعلون فغاب عقلهم الواعي وتركوا قيادتهم ﻟﻤﺠـمـوعـة مـن الانفعالات الحادة. ولأن صورة عبد الناصر في المنظور الغربي الاستعماري بل وفي منظور آخرين من يعادون هذا الغرب الاستعمـاري كـانـت صـورة دكتاتور وطاغية يحتقر الشعب بقسـمـيـه: الـواعـي وغـيـر الـواعـي. المـتـكـلـم والصامت المشترك والصابر فيعامل الأول بالاعتقلات والسجون ووسائل القهر والتعذيب كتعبير عن ازدرائه لإرادتهم. ويخضع الآخرين لـعـمـلـيـات غسل مخ عنيفة تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم. فقد كان طبيعيا عند تطبيق المحكات العقلانية الأوروبية أن يفرح المصريون لموت الطاغية الذي احتقرهم وعذبهم وامتهن إرادتهم. أو أن يكتفوا بالتـرحـم عـلـيـه انـصـيـاعـا للمشاعر الدينية التي تؤثم الشماتة في الموت فإذا حتم الأمر بعض المبالغة فليكن الدمع قليلا. أما أن تنتشر تلك الحالة العنيفة من "الاكتئاب الجماعي" فإن الأمر يصبح عسيرا على الفهم .

ولقد عكف المفكرون والكتاب على تحليل هذه الـظـاهـرة الـغـريـبـة فـي
محاولة لإيجاد تفسير لها وظهرت بالفعل عدة تـفـسـيـرات مـخـتـلـفـة كـان أضعفها القول إن مواكب الدموع العربية عامة والمصريـة بـصـفـة خـاصـة التي ودعت عبد الناصر كانت تقديرا لإيجابيات الرجل وخاصة سياسته المعادية للاستعمار وإنجازاته الاجتماعية المتقدمة.. . الخ.


١- إن هذه الظاهرة نفسها تكررت في يومي ٩ و ١٠ يونيو عام ١٩٦٧ بعد هزيمة بشعة لم يكن فيها شيء من "الإنجاز" بقدر ما كان الدمار والانهيار كاسحا فقد خرج الناس في الشوارع يطالبون عبـد الـنـاصـر بـالـبـقـاء فـي منصبه وألا يتنحى! وذلك:

 أ- بعد أن أضاع خمس الأراضي المصرية.
ب- وبعد أن أضاع ما كان بيد العرب مـن الأراضـي الـفـلـسـطـيـنـيـة إلـى
الضفة الغربية وغزة حيث التهمتها إسرائيل وأصبح غاية المنى والأمل عند العرب اليوم أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل ١٩٦٧- أي قبل أن تضيع غزة والضفة والجولان-وهو حلم عسير المنال.
جـ- وبعد قتل آلاف من المصرييين والعرب وإصابة وتشويه وفقدان آلاف غيرهم في مسرحية تافهة لم تدر فيها معركة حقيقية واحدة.
د- الأخطر من ذلك كله تحطيم نفسية الإنسان المصري والعربي عموما بعد أن كان أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط عندما اكتـشـف أن عـالـم عبد الناصر لم يكن سوى أبنية من الورق تهدمت في ست سـاعـات وجـاء السقوط سريعا وخاطفا بينما عنتريات عبد النـاصـر الـكـلامـيـة لـم تـغـادر
الآذان بعد!.

٢- إن هذه الظاهرة نفسها تكررت أيضا عندما نظم السودانيون لعـبـد الناصر استقبالا بالغ الحرارة حين سافر يشهد مؤتمر القمة في الخرطوم الذي عقد في أغسـطـس ١٩٦٧. وبعد ما يقرب من شهرين علـى الـهـزيمة. حتى قالت الصحف الغربية -وخاصة الأمريكية- وهي تبدي دهـشـتـهـا لـهـذا الاستقبال الحار: إنه لأول مرة في التاريخ يحظى قائد مهزوم بذلك الاستقبال الذي يندر أن يحظى به الغزاة المنتصرون!" (١)



١- الطاغية، إمام عبد الفتاح إمام ص ٢٦٠

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

زمن الرويبضة



رُوي عن النبي محمد (ص) : " سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة . قيل : وما الرويبضة ؟
قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة "




وعاظ السلاطين وفِراخهم معجبين بهذا الحديث، حيث انهم يرمونه على كل شخص يفتح عقله قليلًا، أو يخالفهم في مسألة من المسائل. أو لشخص أراد الإصلاح ما استطاع،  معتقدين أن الرسول كان يقصد هذه الفئة من الناس، أو يعلمون أنه يقصد فئة أخرى ولكن يحاولون طمس الحقيقة وتحريفها، فالتحريف لا يحتاج إلى زيادة كلمة أو إنقاصها، فيكفي تحريف المعنى مع إبقاء الكلام على ما هو عليه.

إذا ما دققنا في الصفات التي ذكرها النبي "الكذب" و "الخيانة" والحديث في أمور عامة الناس لا تنطبق في عصرنا الحالي على الغلابة والمساكين، بل على الحكام والمسؤولين، فلا يوجد من ينافسهم في الدجل والخيانة، ومع ذلك فهؤلاء هم من يديرون أمور العامة.

نعم، نحن في زمن الروبيضة، حيث من يدير البلاد الإسلامية اليوم هو من يكذب على شعبه ومن يخون وطنه، كذب على شعبه بعد أن قال لهم انه سيكون عادلًا وسيجعلهم سعداء وسينصف المظلوم وسينصر الضعيف، ولن يقدم على أمر إلا بعد أن يستشيرهم، بينما هو في الواقع من أظلم عباد الله على أرضه، حوّل بلاده إلى حظيرة، نشر الظلم والفساد، زاد الغني غنى والفقير فقرًا، عائلته احتكرت المال والأراضي والتجارة، فرّق بين شعبه واستبد برأيه.

في زمن الرويبضة خان الحاكم شعبه، وأدخل الغُزاة في أرضه، أعطاهم حفنة من المال في سبيل تأمين كرسيه، تآمر مع العدو ضد شعبه، سرق أموال شعبه ووزعها على عائلته والمرتزقة من حوله، يصرف على شعبه بالقطارة بمقدار ما يكفيهم حتى يبقوا أحياء، ذلّ شعبه وشتت شبابه، قدّم الأجنبي في العمل عن ابن جلدته، فهل توجد أعظم من هكذا خيانة؟

إن الحكام والمسئولين - الدجاليين والخونة - الذين نصفق لهم، جعلناهم منارة هذه الأمة وأمنائها وحرّاس الوطن وولاة أمورنا، القادة العِظام أصحاب الفكر المستنير، سبب سعادتنا البائسة، جعلناهم يعيشون في القصور بينما مكانهم الحقيقي مدارس محو الأمية والمصحات العقلية.
 أعطيناهم السلطة بالتصرف في أحوالنا، كم خبزة نأكل، كم كوبًا نشرب، كم نفس نستنشق. مجدناهم عظمناهم قدرناهم عبدناهم، فصدقنا الكاذب وأتمنا الخائن، وأصبح الصادق والأمين في ظلمات السجون تحت رحمه المخبرين.


وأتى الزمن المنشود، وصدق الرسول الكريم!