السبت، 13 يناير 2024

تشي جيفارا عرّاب حرب الغوار


 


هل تساءلت يوما كيف يمكن لفرقة أو حزب أو تنظيم صغير أن يواجه جيوش نظامية بل ويتمكن من الصمود والتغلب عليها، على الرغم من الفرق الشاسع بين الجانبين من ناحية الكم والعتاد والتقنية؟

إن هذه المجموعات الصغيرة لا تستطيع أن تصمد أمام الجيوش النظامية إلا عن طريق تكتيكات حرب الغوار أو بما يعرف بحرب العصابات أو الشوارع –ونفضل مصطلح الغوار-

في وقتنا الحالي إن ما يحدث في غزة بفلسطين المحتلة هي إحدى هذه الحروب، فتسعى مجموعة صغيرة بالعدد –حماس- من مقاومة المستعمر –الكيان الصهيوني- وصمود ونجاح هذه المجموعة كما يخبرنا التاريخ وإن طالت ليست بمستحيلة، فكما يقول جيفارا: (تستطيع القوى الشعبية أن تكسب حربا ضد الجيش النظامي) وهنا كان يتحدث عن حقيقة تاريخية وليست تنظير.

عند قراءتك لكتاب تشي جيفارا (حرب الغوار) ستدرك من الناحية العملية ما تقوم به حركة المقاومة، وكأن جيفارا كان يكتب سيناريو هذه الحرب، أو بالأحرى أن هذه الجماعات مطلعة على هذا الكتاب.

قام تشي جيفارا بتأليف هذا الكتاب في عام 1961م وذلك بعد نجاح الثورة الكوبية والتي شارك فيها مع رفيقه فيدل كاسترو، ويتضح أهمية هذا الكتاب في أن جيفارا وضع مبادئ حرب الغوار مستندا على الجانب النظري والعملي، لاسيما أن تجربته كانت ناجحة وقلبت موازين القوى رأسا على عقب، فهو لم يقم بأول حرب من هذا النوع، وإنما قام برسم خارطة لأي جماعة تمتلك ذات الأهداف في العصر الحديث، فكما يقول من الهدف من تأليف هذا الكتاب: (نقصد الآن إلى إيجاد الأسس التي يقوم عليها هذا النمط من النضال والقواعد التي ينبغي أن تتبعها الشعوب الباحثة عن تحررها، إن مقصدنا هو تحويل الممارسة إلى نظرية واستجلاء بنية هذه التجربة وتعميمها لفائدة الآخرين)

ولم يتجاهل جيفارا تجارب الآخرين بل كان مطلع عليها واستفاد منها ووظفها في كتابه، فمثلا يقول: (وقد علمنا أنهم في الجزائر مثلا يستعملون حاليا ضد الحكم الاستعماري الفرنسي ألغاما مسيرة عن بعد، تنفجر على مسافة كبيرة من نقطة إطلاقها باللاسلكي)

ويفرق جيفارا بين المغاور ورجل العصابات، حيث إن المغاور: (مصلح اجتماعي، وأنه يحمل السلاح استجابة لاستنكار الشعب الكامن ضد مضطهديه) أما عصابات قطاع الطرق وإن كانت لديها مميزات جيش الغوار إلا أنها ينقصها تأييد الشعب، وهو الفرق الجوهري بين الفريقين.

يتكون الكتاب من أربعة أقسام:

القسم الأول: المبادئ العامة لحرب الغوار: ويشمل جوهر الحرب والتفريق بين الحرب في المواقع الجغرافية المختلفة.

القسم الثاني: الغوار: ويشمل صفات المغاور وتنظيم القتال.

القسم الثالث: تنظيم جبهة الغوار: ويشمل تموين الحرب والمنظمات المدنية ودور المرأة والصحة والصناعة والدعاية وغيرها.

القسم الرابع: من تشكيل الغوارة الأولى إلى الدفاع عن السلطة بعد الفوز بها: وهي الطور الأخير من حرب الغوار.

وحيث يرى جيفارا أن حرب الغوار ما هي إلا طور ومرحلة من مراحل الحرب: (من الثابت أن حرب الغوار تؤلف أحد أطوار الحرب، فلا يستطيع هذا الطور وحده أن يؤدي إلى الظفر، إنه أحد الأطوار الأولى من الحرب، وسوف يتطور حتى يكسب الجيش الثائر إبان نموه المستمر مميزات الجيش النظامي)

وعن تكتيك الحرب فيختصرها جيفارا في التالي: (عضّ، اهرب، تريّث، راقب، عد ثانية، عضّ واهرب مرة أخرى، وهكذا دواليك، دون أن تترك للعدو راحة)

وعن صفات المغاور وجوهر الغوار يقول بتصرف: (ومثلما ينبغي في الحرب الحديثة أن لا يموت اللواء قائد فرقة على رأس جنوده، ينبغي كذلك للمغاور الذي هو لواء نفسه أن يصون حياته، إنه مستعد لعطائها، غير أن الوجه الإيجابي من حرب الغوار هو بالدقة أن كل مغاور مستعد للموت ليس دفاعا عن مثل أعلى بل لتحويل المثل الأعلى إلى حقيقة. هذه هي قاعدة نضال الغوار وعين جوهره: إنها المعجزة التي تجترحها مجموعة صغيرة من الرجال لإحقاق العدالة)

وعن سلوك وأخلاق المغاور فيقول: (يجب أن يرتكز السلوك نحو السكان المدنيين على احترام كبير لكافة تقاليد وعادات أهالي المنطقة، للتدليل العملي عن تفوق المغاور أخلاقيا على الجندي المضطهد)

وعن الدعاية والإعلام يقول: (ينبغي أن تتألف هذه المنظمة من قسمين متكاملين، يغطيان نطاق الوطن كله، يجب أن تتم الدعاية من الخارج، أي ضمن المنظمة الوطنية المدنية، ومن الداخل أي في وسط الغوار)

وفي الأخير فإن الكتاب الذي وضعه تشي جيفارا ليست التجربة الأخيرة، بل وضعه ليأتي من بعده ليحسن هذه الطرق، فيقول: (إن هذه التجربة ليست إلا تجربتنا الكوبية التي أعبر عنها ههنا، ويمكن أن تأتي تجارب جديدة فتغير من هذه الطرائق وتحسنها فنحن نقدم مخططا لا توارة)

الصادق النيهوم... تحية طيبة وبعد





سنويا وفي كل زيارة لمعرض الكتاب بمسقط أبحث عن دار نشر قام بجمع مقالات الصادق النيهوم المبعثرة ووضعها في كتاب، فبعد قراءتي لـ "إسلام ضد الإسلام" "الإسلام في الأسر" "محنة ثقافة مزورة" "الرمز في القرآن" شعرت أني لم أرتوي من نهر أفكار المفكر والأديب النيهوم، الكاتب الذي يرسل إليك أفكاره بأسلوب أدبي رصين أو بالسخرية أحيانا. تتفق معه تارة، وتختلف معه تارة أخرى، وقد يختلف النيهوم مع نفسه تارة أخرى عندما يعيد النظر كما حدث مع نظريته الرمز في القرآن، أو أنك تعتقد أن مشروع الجامع الذي ينظّر له من الصعوبة تطبيقه في أرض الواقع، كل ذلك لا يهم، فالمهم أن المقالات التي كتبها سواء في الستينات أو السبعينات أو الثمانينات ما زالت صالحة للقراءة حتى يومنا هذا، فما زلنا نعايش المشاكل التي أراد أن يعالجها، وكأنه كتب مقالاته لتعيش ما لا يقل عن مائة سنة!

كتاب (تحية طيبة وبعد) من إصدار دار برنيشي للكتاب، جمع فيه مقالات الصادق النيهوم والتي كتبها في سنوات متفرقة ولمواضيع مختلفة كالسياسة والدين والاجتماع، ويتساءل الناشر في كلمته: "كيف تأخرنا حتى هذا الوقت في نشر هذا الكتاب؟"

في مقاله "تحية طيبة وبعد" يكتب النيهوم على لسان الحاج الزروق: (قلت لك أن الأب (اليكسي زخلروف) كان يصف الجنة لرواد الكنيسة في قداس يوم الأحد حتى أسال لعاب الرواد وأغراهم بفعل الخير.. كان يعرف من أين تؤكل الكتف ويعرف الجنة شبرا شبرا.. ولولا أنه كان يقرأ من الإنجيل لاعتقدت أنه وكيل سياحي.. لكن الأب اليكسي زخاروف كان يقرأ من الإنجيل)

وفي مقاله "وجهة نظر.. في مشكلة ملحّة": (.. الفرق الحاسم بين المواطن المصاب (بنقص المعرفة) والمواطن المصاب (بنقص التغذية) أن أحدهما يسعل طوال الليل ويعاني من فقر الدم والسل، والآخر يركض مثل الحصان ويحمل عصاه معه لكي يكسر رأسك إذا قررت أن تلعب أمامه دور الطبيب)

وفي مقاله "أين تجذف إسرائيل": (فدعنا ننقل إسرائيل إلى أي مكان آخر.. دعنا نحملها بين ذراعينا ونطوف بها على دول العالم ونسأل عند كل بوابة: هل لديكم مكان شاغر لإقامة دولة أبناء الله؟ هل لديكم حقول يستولي عليها أبناء الله ويطردون أصحابها. هل لديكم صفاية تصفى بها مواطنيكم فنضع اليهودي داخل الحدود وغير اليهودي خارج الحدود؟"


الجمعة، 29 سبتمبر 2023

ما بعد حقوق المرأة في قانون العمل

 



لنفترض أنه أسند مشروع إليك، وللقيام بهذا المشروع يتوجب عليك استخدام أحد الجهازين، سنطلق على الجهاز الأول الحاسوب الأزرق، وعلى الجهاز الثاني الحاسوب الأحمر. والجهازان يؤديان ذات العمل وبنفس الكفاءة، إلا أن الحاسوب الأزرق إذا ما تعطلت (لوحة الأم) فإنه يحتاج إلى (10) أيام لإصلاحه، أما الحاسوب الأحمر إذا ما تعطلت (لوحة الأم) فإنه يحتاج إلى 4 أشهر لإصلاحه. وإذا ما تعطلت (ذاكرة الوصول العشوائي) للحاسوب الأزرق فإنه يحتاج إلى أسبوع لإصلاحه، أما إذا تعطلت (ذاكرة الوصول العشوائي) للحاسوب الأحمر فإنه يحتاج إلى (3) أشهر لإصلاحه، وبعد مرور الثلاثة أشهر ستضطر إلى عدم استخدام الجهاز لمدة ساعة في اليوم لمدة سنة، ويوجد احتمال أن تستمر هذه الحالة لمدة سنتين، وبعد مرور السنتين هناك احتمال كبير جدا بأن (ذاكرة الوصول العشوائي) سوف تتعطل مرة أخرى وستمر بجميع هذه الإجراءات. فإن كنت صاحب هذا المشروع فأي جهاز ستختار لإنجاز مشروعك؟

بعد صدور قانون العمل بالمرسوم السلطاني رقم 53/2023 قرأته قراءة سريعة وذلك بحكم مهنتي التي تفرض علي الاطلاع على القوانين التي تصدر فورا، وبعد ذلك قرأته للمرة الثانية قراءة متأنية حتى أميز المستجدات، وأخيرا قرأته قراءة معمقة لأنه أسند إلي عمل متعلق بقانون العمل، هذه القراءات الثلاث قرأتها بعين المحامي الذي يهمّه الفهم الصحيح للقانون وتطبيقه التطبيق الصحيح. ولا استطيع أن أنكر أن عيني الأخرى الفضولية التي تسعى لقراءة ما خلف النص وأبعاده والتي تحاول دوما أن تفهم الواقع وتتنبأ بالمستقبل فتحلل وتفسر وتربط وتقيس كانت حاضرة كذلك، وهي التي ستحدثكم عما رأت في هذا المقال لا عين المحامي.

منذ عام 2020م وبعد تولي السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم لا يخفى على المتابع اهتمام الحكومة في الجانب الاقتصادي. وحيث إن أحد أهم عوامل النمو الاقتصادي هي الكثافة السكانية نسبة إلى مساحة الأرض، وهذا العامل يعتبر ضعيفا في سلطنة عمان؛ إذا أن عدد 5,000,000 نسمة يعد رقما متواضعا، لذا ومنذ عام 2020م صدرت عدة مراسيم سلطانية تؤكد لنا رغبة الحكومة في زيادة التعداد السكاني والتشجيع على الإنجاب منها: مراسيم سلطانية تتعلق بمنح ورد الجنسية العمانية. المرسوم السلطاني رقم 23/2023 في شأن زواج العمانيين من أجانب والذي يسمح للعمانيين بالزواج من الأجانب –ويحتاج هذا المرسوم لمقال آخر-. صدور قانون الحماية الاجتماعية واستحقاق الطفل لمنفعة الطفولة.

واستمرارا لهذا النهج جاء قانون العمل الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 53/2023 متماشيا مع رأينا القائل برغبة الحكومة بزيادة عدد السكان، فقانون العمل كما سنرى لاحقا يسعى لتشجيع الإنجاب.

مع صدور قانون العمل برزت أصوات احتفلت وهللت لحقوق المرأة العاملة، وقالت إن هذه الحقوق جاءت تعزيزا لمكانة المرأة في المجتمع ..الخ. وإذا ما نظرنا إلى حقوق المرأة العاملة في قانون العمل 53/2023 لا يمكننا إلا أن نرى تضاعف حقوق المرأة العاملة مقارنة بقانون العمل السابق 35/2003، ولا يمكننا لوم هذه الأصوات على حالة الابتهاج بالنصر.

فبعد أن كانت العاملة تستحق (50) يوما إجازة للوضع أصبحت تستحق (98) يوما –أي ما يقارب الضعف- كما أنها تستحق بموجب قانون العمل الجديد ساعة واحدة يوميا لرعاية طفلها تبدأ بعد انتهاء إجازة الوضع لعام واحد وتمتلك الخيار لتحديد هذه الساعة، كما ويجوز منحها بناء على طلبها إجازة بدون أجر لرعاية طفلها دون أجر لمدة لا تتجاوز عاما واحدا.

وبقيت إجازة المرأة العاملة التي يتوفى زوجها كما هي في القانون الجديد (130) يوما للعاملة المسلمة، وأضيفت إجازة للعاملة غير المسلمة التي يتوفى زوجها (14) يوما.

بينما يستحق العامل على (7) أيام إجازة أبوة و(10) أيام في حالة وفاة زوجته بدلا من (3) أيام في القانون القديم.

لا أريد أن استخدم تعابير مجازية شاعرية كالمسمار الأخير في النعش أو رصاصة الرحمة أو القشة التي قصمت ظهر البعير، بل سأقول بكل بساطة: أن هذه الحقوق التي منحت المرأة العاملة ووسعت فارق الحقوق بينها وبين الرجل سوف تؤدي إلى عزوف توظيف المرأة، وذلك بسبب أن على الجانب الآخر يوجد هناك رأسمالي قد اقترض من البنك ليقوم بمشروع، وعليه –وليس لديه خيار آخر- أن يحقق أرباحا لسداد قرض البنك والالتزامات التي عليه وإلا زج به في السجن، ولإنجاز هذا المشروع سيقوم –كما قمت أنت أيضا أيها القارئ الكريم- باختيار الحاسوب الأزرق لإنجاز مشروعه.

عندما توصلت لهذه النتيجة البديهية أصابتني الحيرة، هل كانت هذه النتيجة غير مرئية عندما تم التفكير بوضع هذه المواد المتعلقة بحقوق المرأة العاملة؟ وللإجابة على هذا السؤال توصلت إلى فرضيتين:
الأولى: أنها كانت غير مرئية فكان الهدف هو التشجيع على الإنجاب، فإذا ما كانت المرأة مترددة في الإنجاب بسبب عملها الذي تقضي فيه ما لا يقل عن (8) ساعات يوميا بأيام العمل سوف تصبح أقل ترددا بعد أن سيكفل لها القانون هذه الحقوق.

الثانية: أنها كانت مرئية وواضحة تمام الوضوح، فإذا ما افترضنا أن هذه النتيجة ستكون حتمية فإن عزوف توظيف المرأة يتماشى مع النهج الذي يسعى لزيادة التعداد السكاني لأسباب لا تسع هذا المقال ويستطيع القارئ أن يتوصل إليها.

ملاحظة أخيرة: أرجو ألا يفهم من هذا المقال على أنه يميز بين الرجل والمرأة في مجال العمل، أو أنه تمييز جندري، هذا المقال المتواضع يحاول أن يفهم الواقع ويتنبأ بالمستقبل وفقا لواقع غير متخيل وإنما منصوص عليه في مواد القانون.

 

 

 

  

الجمعة، 11 ديسمبر 2020

المقال العاشر: الكائن المفترس

 

بالأمس عندما عدت مرة أخرى إلى الكوخ الذي يقع بوسط الغابة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى بوسط الغابة، حيث لا توجد هناك خدمات فضلا عن كهرباء أو أي شيء، مجرد كوخ وسط الغابة، مفتوح الأبواب لكل من يريد أن يقيم فيه دون مقابل، عندما عدت إليه مرة أخرى في الليلة الماطرة، قلت لنفسي كم أنا محظوظ لأن أبات في هذه الليلة الماطرة في الكوخ بدلا من الخيمة.

وضعت حقيبة السرير (Sleeping bag) وتهيأت للنوم، وكعادتي، ولا أدري حتى هذه اللحظة إن كنت أفعل هذه العادة على سبيل الجد أو الهزل بأن أضع السكين "السامية" نسبة إلى شعوب السامي المتواجدة في الشمال بجانبي، فكرت لبرهة من الزمن: هل سأستخدم هذه السكين حقًا للحماية؟

ثم وضعت سؤالا آخرا: أحمي نفسي ممن؟

حقًا! كوخ بوسط الغابة، لا يوجد قفل للباب، في الظلام الدامس.

الذئب؟ لا اعتقد ذلك، لا يستطيع أن يفتح الباب، سيرطم رأسه في الباب حتى يمل.

دب جائع؟ لا الذئاب ولا الدببة تهاجم البشر بطبيعتها، ولكن افترضت أنه دب جائع واشتم رائحة بعض الطعام، حسنا.. الدب لا يعلم كيف يفتح الباب ولكن يعلم كيف سيحطمه!

إلى أن يحطمه سأحمل تلك السكين واستعد، وسأتهيأ للمعركة. حسنًا.. في أسوء الأحوال سيقتلني، أما إذا ازداد الأمر سوءًا فسوف يهشم عظامي، وسيجعلني مقعد طوال حياتي، ولكن على الأقل سوف أحصل على معركة متكافئة نوعا ما، لن أدعه يفوز بالمعركة بهذه السهولة، سوف أغرز تلك السكين في أي مكان استطيع أن اغرزها فيه، سأجعله يفوز بالمعركة ولكنه سيخرج منها ببعض الندبات.

لم يكن هذا ما يخيفني بتاتا، أبدا، كلا، لم يكن ذلك ما أخاف منه في ذلك الوقت، أبدا، ما كنت أخشاه أن يدخل إنسان وبيده بندقية!

السويد، ريتفيك (المخيم)

9/9/2018م

السبت، 25 يوليو 2020

تعمين مهنة المحاماة


سبق وأن غردت على منصة تويتر بعض التغريدات حول موضوع تعمين مهنة المحاماة، ولن أكرر موضوع التغريدات.
وباعتقادي أن القرار قد اُتخذ قبل كتابة هذا المقال، وإن ما اكتبه في هذه اللحظة هو عبارة عن ملاحظات عن شيوع عدة عبارات، عبارات أصبحت رائجة وترددها الألسن وتتناقلها، فليس الهدف من هذا المقال هو إثبات صحة رأي، أو تغليب رأي على الآخر.
العبارة الأولى: (مهنة المحاماة هي مهنة سيادية)
عبارة عظيمة، وربما لو سألت المتلقي العادي، المتلقي الذي وصفه أحمد شوقي بقوله: (يا له من ببغاء عقله في أذنيه) عن رأيه في العبارة، لارتعدت فرائصه، سيادية.. كلمة لها وزنها. ولكن إن سألت هذا الشخص: ما معنى مهنة سيادية؟ لأجاب: (آآه طالما.. عيد السؤال تاني) ببساطة.. لأن ليس لها معنى.
فمن صنفها أنها سيادية؟ ولماذا هي سيادية؟ هل لأهميتها؟ إذن هل الطب مهنة سيادية؟ أم هل ينبغي على من يمارس هذه المهنة أن يكون مواطنًا، وبالتالي سنقول أن موظف أو موظفة الاستقبال هي مهنة سيادية؟ في الحقيقة لا أعلم ما تعني مهنة سيادية، وما علاقة المهن بالسيادة.
سأتفق، وسأسلّم، أن مهنة المحاماة مهنة سيادية، في هذه الحالة أنتم مجبرون على الاتفاق معي أن القضاء أكثر سيادية من مهنة المحاماة، ولا اعتقد أن هناك أحدًا يجادل في هذا الشيء. فإذا طرحت هذا التساؤل وقلت: هل القضاء لدينا معمّن؟ هل هو معمّن في المرحلة الابتدائية؟ الاستئناف؟ أو العليا؟ الإجابة هي: لا.
وأتساءل لماذا نحن مهتمون بتعمين مهنة أقل سيادية من أخرى وهي القضاء!
أحيلكم إلى المرسوم السلطاني رقم 49/2020 الصادر بتاريخ 7 إبريل من هذا العام علّكم تجدون فيه الإجابة الوافية.
العبارة الثانية: (تعمين مهنة المحاماة مطلب وطني)
عبارة جميلة، رنّانة، ولو سألت المتلقي العادي عن هذه العبارة لقال: بلا شك وأنا اتفق معها؛ لأنها عبارة جميلة.
وإني أتساءل ما معنى مطلب وطني؟ ولماذا مطلب؟ وهل تعني أن علي أن أطالب بها فقط؟
تأملت هذه العبارة مليًا، فوجدت أحدًا تحدث عنها سابقًا، في رواية ثكنة رأسمالية، -المؤلف ليس مهم بالنسبة لنا- يقول محامي يدعى مالك أو كما يعرف بمالكس لصديقه المحامي الذي لا نعلم اسمه حتى الآن، يقول له: (انظر مثلا كيف يتعاملون مع فكرة توطين مهنة المحاماة، إنهم يخرجون علينا بخطابات ليل نهار يؤيدون فيها فكرة التوطين، ويزعمون أنهم يدعمون هذه الفكرة، وهذا زعم كاذب، هم يفعلون ذلك ليظهروا لنا بأنهم مهتمون بالمحامين وبمهنة المحاماة، مع أن لا أحد منهم طبّق سياسة التوطين، إذ أن من يؤيد فكرة التوطين لا يحتاج إلى قرار لكي يطبقه، بل سيقوم بتطبيقه من تلقاء نفسه)
هذه الرواية تدور أحداثها في زمان غير معلوم، وفي مكان غير معلوم كذلك، الطبعة الأولى كانت بعام 2018م، وأتمنى ألا يفهم هذا على أنه إعلان غير مدفوع للرواية، فليست لي علاقة مباشرة مع الكاتب.
لم أفكر بهذه الطريقة سابقًا، وهذا النص هو الذي أثار تساؤلاتي، فمن يؤيد التعمين لماذا لا يطبقه من تلقاء نفسه؟ هل هو بحاجة إلى قرار؟ أم بحاجة إلى سلطة؟ إذا كان هو مقتنع به ويؤيده لماذا هو بحاجة إلى قرار أو سلطة؟
دعونا إذن نجري تعديلا في العبارة: (تعمين مهنة المحاماة واجب وطني)
ما رأيكم؟ أم أن هذه العبارة ستدخلنا في متاهات؟
العبارة الثالثة: (تعمين مهنة المحاماة هو حق مؤجل -مع وقف التنفيذ-)
لأن هذا النص مذكور بقانون المحاماة الصادر بعام 1996م، وأنا أتساءل، منذ عام 1996م وحتى الآن أي بمرور 24 سنة لماذا ليس لدينا عدد كاف من المحامين؟ عدد زهيد.
اعتقد علينا أن نجد المشكلة ونشخصها تشخيصا صحيحًا، ومن ثم نبحث عن الحلول، لا أن نكون مع أو ضد قرار معين، فقد يطرح القارئ سؤالا ويقول: هل أنت مع التعمين أم مع التمديد؟
وفي الحقيقة هذه إشكالية عامة لدينا، إشكالية ثقافية وفكرية، فإن لم تكن معي، فأنت بالضرورة ضدي، والأشياء كما نراها إما أبيض أو أسود، خير أو شر، نور أو ظلام، فلا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار، كما يقول نزار قباني.
علينا ألا نكون مثل آدم أو إيف، يوناس أو مارثا، شكلوا حزبين، وكل حزب بما لديهم فرحون، علينا أن نستفيد من كلاوديا، التي بحثت عن المشكلة أولا قبل أن تجد حلًا لها، علينا أن نستفيد قليلًا من المسلسلات التي نقضي فيها أوقاتًا مطولة لمتابعتها!
من وجه نظري فإن التعمين من عدمه هي مسألة هامشية، وإن هناك مسألة أهم كان يفترض على المحامين إثارتها ومناقشتها، وهي قانون المحاماة وانعكاسه على الواقع.
إجابتي على السائل هي: أني ضد التعمين مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، وضد التمديد مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، فالمسألة ليست تعمين أو تمديد أو تطبيق القرار من عدمه، وإن كنت أريد أن أخوض في هذه المسألة فسأقول أن التمديد مع إبقاء الوضع على ما هو عليه هو أقل ضررا من التعمين مع إبقاء الوضع على ما هو عليه.
العبارة الرابعة التي لا يكاد أن تتحدث عن هذا الموضوع، إلا ويقوم شخص ليقول لك: (أثبت العماني كفاءته)
وأنا لا اعلم ما سبب ترديد هذه العبارة، تحدثت سابقًا عن عدد المحامين بالأرقام، والأرقام اصدق أنباء من الكتب -مع احترامنا لأبي تمام- لأجد ردودًا تقول أن العماني قد اثبت كفاءته، نعم بالتأكيد.. وأنا محامي عماني ولا اعتقد أني أقول خلاف ذلك. فلاحظت أن هذا الخطاب الشائع هو خطاب شعبوي عاطفي، ومتناقض؛ لأنه عاطفي.
هذا الخطاب قام بتصدير هذه الأفكار حتى لخريجي كليات القانون، فأصبح المتخرج من كليات القانون أو حتى المحامي تحت التمرين يدعم بقوة وبحماسة بكل طاقته هذا الرأي، لأن وكما قيل له أن بتعمين مهنة المحاماة سوف تتوفر الفرص الوظيفية وستحل جميع المشكلات.
وهنا أريد أن أتحدّث مع هذا الشاب الذي لديه هذه الطاقة ويريد أن يبدع، أقول له في المقام الأول بأني لا اقصد أن ارسم صورة سوداوية أو ظلامية عن المشهد، ولكن في تفسيري انطلق من منطلق اقتصادي، بمعنى عندما افسّر ما الذي يحدث، وكيف يحدث، وماذا سيحدث، فهو تفسير اقتصادي، وليس تفسير عاطفي أو أمنيات كما سأوضح لك.
دعني أحكي لك حكاية:
بعد أن يتخرج الشاب أو الشابة من كلية القانون يلتحق بمكتب المحاماة ويعمل لمدة سنتين كمحام تحت التمرين، وبعد أن ينتهي من فترة التمرين ويقيد كمحام ابتدائي تطرق رأسه فكرة فتح مكتب خاص به. وعندما يرى بأنه مستعد لهذه الخطوة يقوم بفتح مكتبه الخاص.
أول شخص سيوظفه هذا المحامي الشاب هو محام وافد.. عليا أو استئناف لسببين، لسبب اقتصادي؛ حيث لا يمكنه أن يجد محام عماني عليا يريد أن يعمل معه كعامل –هذا إن وجد لقلتهم- كما أن أجره مرتفع بأضعاف أجر المحامي الوافد، ولسبب فني؛ حتى يغطي مرحلة الاستئناف والعليا، وهو يغطي المرحلة الابتدائية المعمنة تمامًا.
بعد أن يكثر العمل فإن ثاني موظف يوظفه هو محام تحت التمرين؛ لسبب اقتصادي كذلك، وعندما يزيد العمل يوظف محام تحت التمرين آخر، وعندما سيزيد العمل سيوظف محام تحت التمرين كذلك، ومحام تحت التمرين الأول الذي عينه هذا المحامي أصبح محاميًا ابتدائيا، وطرقت برأسه فكرة فتح مكتب خاص به.. وهكذا دواليك.
ماذا سيحدث إن تم تعمين مهنة المحاماة؟
بعد أن يتخرج الشاب أو الشابة من كلية القانون يلتحق بمكتب المحاماة ويعمل لمدة سنتين كمحام تحت التمرين، وبعد أن ينتهي من فترة التمرين ويقيد كمحام ابتدائي ستطرق رأسه فكرة فتح مكتب خاص به، ولكنه سيتراجع،  وستجهض الفكرة بفتح مكتب، لأن الوضع أصبح مختلفًا لسبب اقتصادي وفني كما ذكرت سابقًا، ولن يتمكن من تحقيق أول خطوة كما في المثال السابق، ولذات الأسباب.
لن يفتح هذا الشاب وهذه الشابة مكتبًا كما كان يحدث في السابق، ستدور العجلة ببطء وسيكون التوظيف بطيئا.
ذكرت في أحد التغريدات أن المحامي الوافد لا ينافس المتخرجين على الوظيفة، فالمرحلة الابتدائية معمنة بالكامل، ولكي ينافس المحامي الوافد المحامي العماني فعلى الأخير أن يعمل لمدة سبع سنوات.
هذه الفكرة يبدو أن الكثير لم يكن منتبه لها، أو أنهم لم يعطوها حقها في الانتباه، ولكنهم انتبهوا لها وقالوا أن الوضع سيتغير، فعادة محامي الاستئناف يحضر الابتدائي، ومحامي تحت التمرين يحضر الابتدائي، والابتدائي يحضر الابتدائي، فسيحضر الاستئناف في الاستئناف، وسيحضر تحت التمرين هنا، والابتدائي هناك، وهذا سيذهب هنا، وذاك سوف يذهب هناك...
أمنيات.. مجرد أمنيات لا يوجد رد..
لا يمكن أن تجبر شخص على آلية وطريقة العمل ومن يغطي ماذا، لا يمكن بأي حال من الأحوال.. هذه مجرد أمنيات.
سابقا تم زف بشارة، هذه البشارة تقول أن بعد تطبيق قرار التعمين سوف يتم غلق مائة مكتب يدار من قبل محامين وافدين، مائة مكتب، لابد لهذه المكاتب أن تعيّن على الأقل محاميًا عمانيًا واحدًا ليغطي المرحلة الابتدائية المعمنة كليًا.
لو افترضنا أن هناك محاميًا عمانيًا واحدًا في كل مكتب، فهذا يعني بعد تطبيق القرار أن هناك مائة محاميًا عمانيًا سوف يفقدون وظيفتهم -على الأقل- ولا أعلم لماذا اعتبر البعض أن هذه بشارة سارة، وأنا أراها كارثة، فماذا سيكون مصير هؤلاء المحامين؟ وهل هناك عدد كاف من المكاتب سوف يتم فتحها؟
من الأشياء اللطيفة التي تثار الآن، والتي يمكن أن نصنفها من ضمن العبارات الشائعة، أنه بعد قرار التقاعد سيقوم المتقاعدون من المجال القانوني بفتح مكاتب المحاماة.
إنا لله وانا إليه راجعون، أحسن الله عزاءكم في التحليل، كان طيبًا وودودًا، واستفدنا منه كثيرًا، وسامح الله من كان السبب!
من الذي أخذ عهدًا منهم أنهم سيقومون بفتح مكاتب للمحاماة؟
هذه الفكرة تظهر لنا أن صاحبها كالغريق الذي يتمسك بالقشة كي لا يغرق. مجرد أمنيات..
وعلى ذكر الأمنيات اعتقد بأنه علينا أن نكون حذرين في أمنياتنا. هناك أغنية لـ Metallica  تدعى  King of Nothing يقول فيها:  Careful what you wish you may regret it

 في الختام أتمنى أن تعتبروا أن هذا المقال عبارة عن حوار وتساؤلات، وليس جدلًا بيزنطيًا أيهم أولا الدجاجة أم البيضة، تشارلوت أو اليزابيث. واغفروا لي زلاتي واستطرادي المتكرر..










الثلاثاء، 19 مايو 2020

إني أرى في المنام أني أذبحك


إني أرى في المنام أني أذبحك
المقدمة:
تعلمنا وسمعنا منذ أن كنّا صغارًا قصة ابتلاء النبي إبراهيم عندما أمره الله بذبح ابنه، وكيف لهما أن انساقا لرغبة الله، ونفّذا ما أمرهما طوعًا، وقد اجتازا الاختبار بسهولة، فأجزاهم الله خير الجزاء.
كانت القصة سهلة، وبسيطة، وجميع التساؤلات التي نتساءلها يُجاب عليها بإجابات معلبّة وحتمية، إجابات لا يطرقها الشك، ومغلّفة بالقدسية والعصمة الإلهية، فنريح ونستريح من هذه التساؤلات.
بدأ اهتمامي بهذه الملحمة العظيمة عند قراءتي لكتاب (الخوف والرعشة) لسورن كيركجورد، ونيّة الكاتب كما جاء في كتابه: (ما أنويه الآن هو أن استخلص من قصة إبراهيم على شكل مشكلات الملامح الديالكتيكية التي تكمن في قصة إبراهيم، لكي أرى مفارقة الإيمان المدهشة، المفارقة التي تجعل جريمة قتل فعلًا مقدسًا وعملًا يسعد الله، مفارقة تعيد إسحاق إلى أبيه، والتي لا يمكن لأي فكر أن يفهمها، لأن الإيمان يبدأ بالضبط حيثما يكف التفكير) (1)
وقد طرح كيركجورد ثلاث مشكلات، وهي مشكلات أثارها هيجل في قصة إبراهيم (2) وهي:
1- تعطيل الغائي للأخلاقي.
2- الواجب المطلق تجاه الله
3- المسوغ الأخلاقي لإبراهيم في إخفاء هدفه عن زوجته سارة، اليعازر، وعن إسحاق.
ليس المهم في هذا المقال عرض آراء كيركجورد أو هيجل، بقدر ما نريد أن نسجل ملاحظة، وهي أن هذه المشكلات هي مشكلات حقيقية سنواجهها نحن كذلك، إذا ما اعتمدنا على القصة التي تعلمناها في المدارس، وسمعناها في المنابر، ولكن هذه المشكلات لن نواجهها إذا ما عدنا إلى القرآن، وقرأنا القصة لا للتسلية، وإنما لأخذ العبرة والعظة.

القصة الواردة في سفر التكوين الإصحاح الثاني والعشرون:
1 وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا».
2 فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».
3 فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ.
4 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ،
5 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا».
6 فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.
7 وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟»
8 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.
9 فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ.
10 ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ.
11 فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا»
12 فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي».
13 فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ.
ويلاحظ من القصة الواردة في سفر التكوين المشكلات التي ناقشها كيركجورد، وهي أمر الله الصريح لإبراهيم، وامتثال إبراهيم للأوامر دون مناقشة بل سلّم بها تسليمًا مطلقًا، وإخفاء إبراهيم نيته بذبح ابنه ولم يستشره في الموضوع.

القصة الواردة في القرآن الكريم بسورة الصافات:
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108﴾

الفرق بين القصة الواردة في سفر التكوين والقرآن الكريم:
لعلّ أبرز أوجه الاختلاف في القصتين:
1- في سفر التكوين كان الأمر الإلهي واضحًا «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». بينما جاء في القرآن الكريم أن النبي إبراهيم رأى رؤيا في منامه (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
2- في سفر التكوين صُرّح بأن الابن هو إسحاق (خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ) بينما لم يبين في القرآن الكريم من هو الابن (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
3- في سفر التكوين لم يستشر إبراهيم إسحاق، وإنما شرع في الذبح (ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ.) بينما في القرآن الكريم استشار إبراهيم ابنه، ودار بينهما حوارًا: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾  
4- في سفر التكوين تم الفداء بكبش (فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ) بينما في القرآن الكريم ذكر أنه ذبح عظيم (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)
إن "المشكلات" التي ناقشها كيركجورد غير منطبقة على القصة التي جاءت في القرآن الكريم، ولكنها حتمًا ستكون مشكلات قائمة إذا ما اعتمدنا القصة من مصادر أخرى كما وردت في كتب التفاسير –كما سنوضح- أو الذي تعلمناه في المدرسة أو ما سمعناه على المنابر.

النبي إسماعيل أم النبي إسحاق:
يكاد لا يخلو كتاب من كتب التفاسير من التعرض لهذا الجدل القائم حتى يومنا هذا، فمن هو الذبيح، إسماعيل أم  إسحاق؟ وقد اختلف المفسرون منذ القدم وذهبوا إلى ثلاثة مذاهب رئيسة: (أ) الذبيح هو إسحاق (ب) الذبيح هو إسماعيل (ج) التوقف.
يقول فخر الدين الرازي: (اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو؟ فقيل إنه إسحاق وهذا قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي) (3)
وفي الحقيقة، غير مهم لدينا من هو ابن إبراهيم في القصة أو الذبيح، ولا نود في هذا المقال تغليب رأي على رأي آخر، ولكن ما يهمنا في هذا الباب:
أولًا أن نبيّن في أن الاختلاف فيمن هو الذبيح هو خلاف قديم، بل إن الرأي الغالب هو الرأي الذي يقول أنه إسحاق، ولا يعني أن من يقول أنه إسحاق فهو مطبّع، كما وصم أحد القائلين المعاصرين بهذا الرأي!
ثانيًا، أن نحرر هذا الخلاف ومنشأه من زاوية أخرى، ولماذا تمسك بعض المفسرين بالقول إنه إسحاق، ولماذا تمسك الطرف الآخر على أنه إسماعيل. أما رأينا فهو التوقف كما قال الزجّاج: (الله أعلم) ونقول كما قال الله في القرآن: ابنه، والله أعلم من كان، ولا يهم من كان، فلو كان الأمر مهمًا لذكره الله، ولكنه لم يذكره ليلفت انتباهنا إلى ما هو أهم، بدلًا من الخلاف الذي نشب بين المفسرين الذي لم يخرج منه بنتيجة، فإن كان إسحاق لم يتغيّر شيء، وكذلك إن كان إسماعيل.
في البدء كان الأغلبية من المفسرين وحتى عوام الناس يقولون ويعتقدون أن الذبيح هو إسحاق، فكما يقول السمرقندي: (والظاهر عند العامة هو إسحاق) (4)
ولا توجد آية صريحة تقول أن الذبيح هو إسحاق، وإنما الإشارات في القرآن الكريم قد تحتمل إسحاق أو إسماعيل، ولكن يتضح فيمن قال أن الذبيح هو إسحاق قد تأثر تأثرًا شديدًا بالإسرائيليات، والتي حشوها حشوًا في كتب تفسيرهم، بل إن بعض الروايات جاءت لتتوافق مع سفر التكوين، لتتصدر روايات كعب الأحبار المشهد، وجميعها روايات ركيكة لا يُستند عليها، ولسنا بحاجة إلى حرف واحد منها بتعبير ابن كثير الذي قال في حق الروايات الواردة في هذه القصة: (وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده) (5)
ومع قدوم الدولة الأموية، وتصاعد النعرة القومية العربية –إن صح التعبير- بدأ القول أن الذبيح هو إسماعيل (أبو العرب) ولإعلاء شأنه قالوا أنه هو الذبيح، وأصبحت المسألة مسألة تفاخر بالأنساب، ونسبوا إلى الرسول أحاديث لا تصح عنه معارضة بذلك القرآن الكريم الذي يقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات/13)
وما يدل على ذلك فيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية: (عن الصنابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة والسلام ; فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم، نذر لله لئن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، وإسماعيل الثاني) (6)
وفي رواية أخرى تدل أن المسألة أصبحت تفاخر بالأنساب: (عن محمد بن كعب القرظي، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فأسلم فحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فقال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، فالله أعلم أيهما كان، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.) (7)

القصة في القرآن الكريم:
نود في هذا المقال أن نقرأ قصة النبي إبراهيم مع ابنه من القرآن الكريم، دون الركون إلى الكم الهائل من الإسرائيليات التي أدخلت فيها، وفي البداية نود أن نشير إلى نقطتين:
أ- أن مصدر القصص القرآني هو القرآن وحده، وأن القصص للعبرة والعظة، وذلك لقول الله عزّ وجل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف/3) وقوله عزّ وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/111)
ب- أن الأنبياء بشر، وذلك لقوله عز وجل: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم/11) وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) (الكهف/110) وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) (الإسراء/93)

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ):
عندما كاد قوم إبراهيم به، اعتزلهم، وقرر أن يهاجر إلى ربه؛ ليهديه. وبعد اعتزاله لقومه، شعر بالوحدة، فلم تكن له ذرّيه، كما بلغ من الكبر عتيًا، فدعا ربه على الكبر أن يرزقه من يؤنّس وحشته، وأن يكون من الصالحين، فسمعه ربه، واستجاب لدعائه، فحمده إبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم/93) فأحبّ إبراهيم ابنه، الذي بشّره الله به، فلا توجد أعظم بشارة من بشارة الله.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ):
كبر الابن، وترعرع في كنف أبيه، وسعى معه مشيًا، وسعى معه في العبادة، وأصبح عاقلًا تقوم عليه الحجة (8) بل وأصبح تام العقل، يفكّر، ويرجّح، ويميّز.

(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)
رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، وقد تكررت هذه الرؤيا لأكثر من مرة، ولهذا قال: (أرى) (9) ولم تكن رؤيا  لمرة واحد كما قال يوسف لأبيه (رأيت): (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف/4).
لقد عاش إبراهيم مع قومه الذين عبدوا الأصنام، ويقدمون لها القرابين البشرية، لقد شاهد إبراهيم ذلك منذ صغره، وإن أنكره؛ فقد ظلّ معلقًا في عقله الباطن.
يقول عبد الكريم يونس الخطيب: (قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره لله، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره لله أن يقدم هذا الولد قربانا لله.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، في المبالغة في التقرب إلى الله) (10)
وما يهم هي العبارة الأخيرة: (وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، في المبالغة في التقرب إلى الله)، أما عمّا "قيل" في البشارة فلا دليل عليه ومستبعد، فكيف يشكر إبراهيم ربه بهذه الطريقة، وهو من قام بالدعاء له بأن يهب له من الصالحين؟
ويقول محمد شحرور: (إن تقديم القرابين البشرية للآلهة قبل عهد إبراهيم كان ظاهرة شائعة في العديد من بقاع العالم، وفي أغلب الهياكل والمعابد (...) وعندما اهتدى إبراهيم للذي فطر السموات والأرض حنيفًا (...) احتار ماذا يفعل ليقترب من هذا الإله (...) ظلت فكرة تقديم القربان تدور في رأس إبراهيم حتى سيطرت عليه، وبدأ يرى في المنام أنه يذبح ابنه) (11)
ونختلف مع رأي محمد شحرور في أن إبراهيم قد احتار، وأنه كان يفكر بوعيه بتقديم ابنه كقربان، والصحيح أنه لم يفكر في تقديم القربان بوعي منه، وإنما كانت الفكرة في عقله الباطن؛ ولهذا تكررت الرؤيا  في منامه.

(فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
وبعكس ما ورد في سفر التكوين، فإن إبراهيم وبعد تكرر الرؤيا  تشاور مع ابنه، واخبره عن الرؤيا  التي تكررت، وقال له: (فانظر ماذا ترى) ليستشيره، ولم يكن كما قال بعض المفسرين من أنه ليكتشف عزم ابنه، بل لأن إبراهيم كان مترددًا، ومتشككًا؛ فقد كان ذلك هو منهجه عند رؤيته للكوكب والشمس والقمر، وعندما طلب من الله أن يريه كيف يحي الموتى (12) ليأتي الرد من ابنه، (يا أبت افعل ما تؤمر) لا ما تراه في منامك.
وينقل عبد الكريم القشيري قول متسق مع الآية: («يا أبت افعل ما تؤمر» : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكون لها تأويل، فإن كان هذا أمرا فافعل بمقتضاه، وإن كان لها تأويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كل وقت ولكن لا يمكنك تلافيه.) (13)
وقد قال أغلب المفسرين أن الرؤيا  كانت وحيًا، ولكن هذا القول يناقض القرآن من عدة أوجه: (14)
(أ) لو كانت وحيًا لما تردد إبراهيم، ولقام بالفعل من أول رؤيا  مناميّة.
(ب) لو كانت وحيًا لما استشار إبراهيم ابنه.
(ج) لو كانت وحيًا لما قال ابنه (يا أبت افعل ما تؤمر) ولقال ما رأيت أو ما أوحي إليك.
(د) لا يتصوّر من أن الله يأمر نبي بأن يقتل ابنه، والله عزّ وجل يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/90)
(ه) لا يتصوّر أن يأمر الله بما ينكره (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (الأنعام/137) (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/140)

ولأن أغلب المفسرين تصوّروا أن رؤيا إبراهيم المناميّة كانت وحيًا، ووقعوا في التناقضات، حاولوا التبرير بجعل إبراهيم كالآلة دون مشاعر، فما إن جاءه "الوحي" حتى همّ لينفّذ، وما كان حواره مع ابنه إلا ليرى عزمه، لقد نزعوا من إبراهيم بشريته بمجرد تصورهم أن الرؤيا كانت وحيًا وأمرًا إلهيًا، متجاهلين أنه كان قبل كل شيء إنسانًا، يشعر بما يشعره الأب تجاه ابنه، كما شعر من قبله نوح تجاه فيمن ربّاه، فقد أمره الله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود/37)  فقال نوح بعد مخالفة أوامر الله: (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود/46)

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ:
استقر إبراهيم وابنه على رأي واحد، بعد أن دار بينهم نقاش، وهذا مدلول الآية بكلمة (فلما)، وبدأ إبراهيم بمقدمه الذبح، فتله للجبين. وليس صحيح ما ورد في كتب التفاسير من الإسرائيليات من أنه باشر فعل الذبح، كأن ذبحه فظهرت صفيحه من النحاس بحلقه، أو أن السكين انقلبت، أو طعنه فمالت السكين، فكل هذه الأقوال لا سند لها من القرآن، ولم يشر القرآن أنه باشر في الذبح.
يقول القرطبي بعد سرد هذه الروايات: (وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما، وكان أولى بالبيان من الفداء) (15)

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ:
تدخلت حينئذ العناية الإلهية، لتوقف إبراهيم عن فعله ولتصرفه عنها، وليبدل شكّه باليقين، لتبين له أنها مجرد رؤيا صدقها إبراهيم، ولم تكن وحيًا أو أمرًا إلهيًا، ولا يُعلم كيفية تدخل هذه العناية الإلهية؛ فهي من الغيب ولم يشر القرآن إليها. وتتدخل العناية الإلهية عند الأنبياء أحيانًا لتصرف عنهم السوء والفحشاء كما جاء في حق يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/24).

إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ:
والبلاء المتسق مع سياق الآية هي النعمة، أي النعمة البيّنة، فقد أنعم الله على إبراهيم بأن أوقفه من ذبح ابنه، ولينهي عصر تقديم القربان البشرية.
يقول الماوردي في تفسير البلاء: (الثاني: النعمة البينة, قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة: (وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاء)) (16)

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ:
لا يهم ما هو الذبح، أكبش كان أم وعل، كما ذهب المفسرين، فالمهم في القصة أنه تم استبدال تقديم القرابين البشرية بالبدن، وتكون صدقات للمحتاجين، فالله غني عنها: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ) (الحج/37).
وقد ترك الله هذه النعمة العظيمة للآخرين من بعد إبراهيم، لينتهي عصر تقديم القرابين البشرية.
ينقل الزمخشري عن ابن عباس: (لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم) (17).
ويقول محمد شحرور: (ما وضعه من منع القرابين البشرية واستبدالها سيبقى ساري المفعول إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وليس محصورًا بعصر إبراهيم، بل سيشمل ما بعده من عصور متأخرة) (18)

الخاتمة:
ورّط المفسرون أنفسهم عندما أخذوا بالإسرائيليات في قصة إبراهيم، ودخلوا في متاهات عندما اعتبروا أن الله أوحى إليه وأمره، وأخذوا القصة من سفر التكوين ليواجهوا المشكلات التي واجهها كيركجورد. بينما جاءت القصة مغايرة في القرآن الكريم، وليلفت الله انتباهنا إلى النعمة التي تركها لنا إبراهيم، وهي إنهاء عصر تقديم القربان البشرية.
من الأخطاء التي يقع فيها البعض هي محاكمة الناس في عصور غابرة بقوانينهم الأخلاقية المعاصرة، فيحاول أن يطعن في إبراهيم ويتهمه بجريمة الشروع في القتل، متناسيًا أن الأخلاق والقوانين في ذلك الزمان مختلفة، وأن الناس في ذلك الزمان كانوا يقدموا أبناءهم قرابين لآلهتهم، ويعتبر هذا الفعل أمر أخلاقي بالنسبة إليهم، ولو عاش هو بينهم لما تردد بتقديم أحب أبناءه كقربان ليتقرب به لإلهه. ولولا إبراهيم لساد تقديم القرابين البشرية لفترة طويلة من الزمن.
إن القوانين والأخلاق التي نشهدها اليوم هي نتاج تراكمات الجهود البشرية، وقد كان الأنبياء أحد المساهمين في هذه الجهود، فالنبي قبل أن يكون نبيًا هو مناضل ومصلح وثائر، سعى جاهدًا لإصلاح قوانين وأخلاق قومه.
لا ينبغي محاكمة السابقين بقوانيننا وأخلاقنا المعاصرة دون فهم والإحاطة بظروفهم وقوانينهم وأخلاقهم، وإن كان الحال كذلك، فسيأتي يوم يقرأ الناس تاريخنا وسيصفونا بالمجرمين المتخلفين الذي كانوا يشنقوا الناس ويسجنونهم أو يجرّموا الإجهاض والقتل الرحيم!

______________
1- سورن كيرككورد، الخوف والرعشة، ص 76
2- لم أتمكن من الاطلاع على كلام هيجل، وهو غير مهم على كل حال في المقال.
3- فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب، ج26، ص346 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
4- أبو الليث السمرقندي، بحر العلوم، ج3، ص147 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
5- ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج7، ص28. بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
6- الطبري، جامع البيان، ج21، ص85 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
7- المرجع السابق
8- الشوكاني، فتح القدير، ج4، ص463 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة. وقول الحسن هو الأقرب للصواب.
9- انظر: أحمد النوفلي، أقانيم اللامعقول، الحلقة الثانية، ص 116. ومحمد شحرور، القصص القرآني، الجزء الثاني، ص 111.
10- عبد الكريم يونس الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج12، ص5 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
11- محمد شحرور، مرجع سابق، ص109.
12- روي عن النبي محمد: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
13- عبد الكريم القشيري، لطائف الإشارات، ج3، 238 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
14- ذكر الرازي في تفسيره أقوال من احتج على أن الرؤيا وحي، مرجع سابق،  ص346.
15- شمس الدين القرطبي، تفسير القرطبي، ج15، ص102 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
16- الماوردي، النطت والعيون، ج5، ص62 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
17- الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج4، ص55 بحسب ترتيب المكتبة الشاملة.
18- محمد شحرور، مرجع سابق، ص113.